Ibn Khaldun

أَبُو زَيْدٍ وَلِيُّ الدِّيْنِ عَبْدُ الرَّحْمَٰنِ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الحَسَن بن مُحَمَّد بن جَابِر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيْم بن عَبْدِ الرَّحْمَٰنِ بن خَلْدُوْن الْحَضْرَمِيُّ الإِشْبِيْلِيُّ الشهير اختصاراً بِـ«ابن خَلْدُون» عالمٌ من علماء العرب والإسلام برع في علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والتخطيط العمراني والتاريخ وبنى رؤيته الخاصة في قراءة التاريخ وذلك بتجريده من الخرافات ليكون أوّل من طبق المنهج العلمي على الظواهر الاجتماعية. امتهن الكتابة في شبابه وأصبح رسولاً بين الملوك في بلاد المغرب والأندلس قبل أن يُقلد قضاء المالكية على يد السلطان الظاهر سيف الدين برقوق؛ ترك مُراسلة الملوك وانصرف للدراسة والتصنيف وألف عديد الكُتب كان أهمها كتاب «[[العبر وديوان المبتدأ والخبر|العبر وديوان المُبتدأ والخبر في مَعرِفة أيام العَرب والعَجم والبَربر وَمَن عاصَرَهُم من ذَوي السُلطان الأكبر]]» والذي عُرف اختصارًا بـ«تاريخ ابن خلدون».

وُلد ابن خلدون في تونس زمن الدوّلة الحفصية وقضى بها طفولته قبل أن يبدأ تنقله بين المُدن في المغرب العربي وبلاد الأندلس واعتكف وهو بالمغرب للدراسة وأنهى مقدمته الشهيرة قبل مغادرته لمصر ومنها أدّى فريضة الحج ودخل وسيطاً لحقن الدماء بين أهالي دمشق وجيوش تيمورلنك حيث كان ضمن القضاة المُرافقين للسطان المملوكي الناصر زين الدين فرج. في دمشق نزل بالمدرسة العادلية وبقي فيها حتّى أتمّ مهمته؛ بخلاف هاتين المغادرتين فلم ينقطع عن مصر وكان مُعلماً في إحدى مدارس المالكية بالقاهرة وهي المدرسة القمحية. خلال دراسته لأحوال الشعوب والمجتمعات اكتشف ابن خلدون علم العمران البشري وهو مُلخص حياة الدوّل وما تصل إليه من ازدهارٍ واضمحلال ويهدف لدراسة أحوال الناس في أوضاعهم المعيشية والسياسية والدينية والاجتماعية وفق رؤيةٍ علميةٍ وتأريخ صحيح للمجتمعات من خلال إبعاد التأثيرات الخارجية لآراء المؤرخين الشخصية.

لمؤلفات ابن خلدون أثرٌ كبير في الفكر العالمي إذا اعتبُر أول من درس نشوء وتفكك الدوّل وفق رؤيةٍ كاملة شملت النُظم السياسية والاجتماعية والسياسات الاقتصادية والنقدية إضافة لمستوى التقدم في العُمران المدني، هذه الأفكار جعلت منه شخصيةً مركزيةً في الدراسات المعاصرة له قبل انهيار الحضارة الإسلامية وشكل عند العجم منارةً علميةً في السياسة والاقتصاد فدُرست مؤلفاته وتُرجمت لعدّة لغات وأولُ هذه الدراسات كانت على يد جاكوب خوليو إذْ تتبع فكر ابن خلدون وألف كتابه بعنوان رحلات ابن خلدون عام 1636 وتُرجم الكتاب للغات اللاتينية والفرنسية واليونانية. يُعتبر ابن خلدون أوّل عالمٍ دوّن سيرته الشخصية كاملةً حيث اشتملت أجزاء مؤلفه الأشهر على كلِّ تفاصيل حياته وما عاناه أثناء ولادة وموت الممالك في المغرب العربي إضافةً لما رآه أثناء الإقامة في مصر ووساطته مع تيمورلنك ورحلته لأداء فريضة الحج.

طفولته
وُلد ابن خلدون في تونس عام 732هـ المُوافقة لسنة 1332م لأُسرةٍ أندلسية كانت قد نزحت إلى إفريقية في القرن السابع الهجري. أصلُ ابن خلدون يرجع للعرب اليمانية في حضرموت ونسبه الأول لوائلِ بنِ حجر وفق روايةِ ابن حزم الأندلسي وقد ذكر ابن خلدون أن بينه وبين وائلٍ ستةُ آباءٍ، غير أنّ هذه الرواية شكّك بها هو نفسه باعتبار أن ستة آباءٍ لا تكفي لقطع ستةِ قرونٍ ونصف، فإذا كان جده الداخل إلى الأندلس عند الفتح فإن أسماءً قد سقطت من نسبه حيث يعتقد أنّ كل قرن فيه ثلاثُ آباء وبالتالي فإن عددهم يجب أن يكون عشرين.

يرجع ابن خلدون في نسبه إلى بيتٍ من بيوت الرياسة في الأندلس وقد استوطن بها أحد جدوده في عصر الفتح، حيث استقر أولاً بمدينة قرمونة قبل الانتقال لأشبيلية، وظهر بنو خلدون فعلياً في عهد الأمير عبد الله بن محمد الأموي الذي انتشرت الاضطرابات في عهده، وكان بنو خلدون من جملة الثائرين عليه إذ كانوا من كبار عائلات إشبيلية إضافة لبني أمية بن عبد الغفار وعبد الله بن الحجاج وكريب. أو كريت.

ولما تشققّت الدوّلةُ في الأندلس وبدأت بالسقوط بيد ملك قشتالة نزح منها الأمير أبو زكريا الحفصي سنة 620هـ المُوافقة لسنة 1223م وقصد إفريقية، وغادر معه بنو خلدون خوفاً من سوء العاقبة إذا سقطت إشبيلية بيد النصارى. وقد نَعَمَ بنو خلدون بالجاه والسعة في الدّولة الحفصية وعاشوا معارك الدّولة مع الخوارج عليها. أمّا والد ابن خلدون فقد زهد بالحياة السياسية والتجأ لحياة الدرس والعلم وبرز في الفقه وعلوم اللّغة ونظم الشِعر وبقي في علمه حتّى وفاته إبان الفناء الكبير أو الطاعون الجارف سنة 749هـ المُوافقة لسنة 1349م، حينما كان ابن خلدون في الثامنة عشرة من عمره.

نشأ ابن خلدون على تراث أسرته عريقة العلم؛ فدأب على الدراسة في حُجر أبيه الذي كان معلمه الأول، فقرأ القرآن وحفظه وتبحّر في القراءت السبع ودرس بعضاً من الحديث والتفسير والفقه إضافةً للنحو واللّغة مستثمراً أساتذة تونس التي كانت أبرز مراكز العلوم والآداب في بلاد المغرب. في كلِّ علمٍ ذكر ابن خلدون اسم أساتذته واهتم بترجمة أعمالهم وتحدث عن بعض الكُتب التي درسها، حيث يبدو ممّا درسه أنّه تخصص بالفقه المالكي وعلم اللّغة والشعر قبل أن يدخل في الفلسفة والمنطق حتّى بلوغه. وبعدها انتشر الفناء الكبير أو الطاعون الجارف كما يسميه ابن خلدون، وعمّ المرض ديار الإسلام من سمرقند حتّى المغرب الأقصى، وكان مُنتشراً في إيطاليا حينها وبعض البلاد الأوروبية الأُخرى، وقد عاش ابن خلدون حالة حُزنٍ بسبب الوباء حيث فقد معظم معلميه وشيوخه إضافةً لوالديه.

الحياة في مصر
وصل ابن خلدون للاسكندرية بعد رحلة بحرٍ استمرت لنحو أربعين يومياً وكان وصوّله في عيد الفطر سنة 784هـ 1382م؛ وأقام بالإسكندريةِ نحو شهرٍ لتهيئة ظروف الحج لكن لم يستطع لذلك سبيلا فقصد القاهرة آملاً في الاستقرار والهدوء بعد أن بلغ من العمر اثنين وخمسين عاماً، وكانت القاهرة يومئذٍ موئل الفكر الإسلامية وحامية العلوم والآداب؛ ووصلها في ذي القعدة وأبهرته بضخامتها وجمالها «فرأيت حاضر الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأممّ، ودرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام وكرسي الملك،تلوح القصور والأواوين في جوّه، وتزهر الخوانق والمدراس والكواكب بآفاقه».

كان سيط ابن خلدون سابقاً له في الوصول للقاهر وأُعجب أهل العلم بمقدمته وطريقة بنائِها، فما إن حلّ بالقاهرة حتّى أقبل عليه أهل العلم وطلابه يرتجون منه الفائدة ويقول ابن خلدون «وانثال علي طلبة العلم يلتمسون الإفادة مع قلّة البضاعة، ولم يوسعوني عذراً، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها». وقد نقل أبو الماحسن بن تغري عمل ابن خلدون في كتاب المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي قائلاً «واستوطن القاهرة وتصدّر للاقراء بالجامع الأزهر مدّة، واشتغل وأفاد». كان ابن خلدون يُدّرس الفكر المالكي ويستفيض بتفصيل العُمران البشري وكيف تُبنى الدوّلُ والممالك، وكان متحدثاً بارعاً يجلب السامعين لبابه من شدّةِ جمال ملافظه واتزان كلامه وكذا حدثَ عنه من التحقوا بدرسه مثل تقي الدين المقريزي ومثله الحافظ ابن حجر الذي انتفع بعمه فوصفه «وكان لسنا، فصيحا، حسن الترسل وسط النظم؛ مع معرفة تامة بالأمور خصوصاً متعلقات المملكة»، وهكذا ثبّت ابن خلدون نفسه في المجتمع القاهري وآثار اعجابه وتمكّن من الاتصال بالسلطان الظاهر برقوق الذي وّلى على مصر قبل وصول بأيامٍ قلائل.

أكرم والي مصر ابن خلدون وأحسن مثواه «فأبر مقامي، وآنس الغربة، ووفر الجراية من صدقاته، سأنه مع أهل العلم». وبذلك فقد كسب ابن خلدون ما تمناه من الاستقرار والعيش بظلّ حاكمٍ يؤمن له مصدر رزقه، وما لبث حتّى عُين في التدريس بمدرسة القمحية(2) وهي من مدارس المالكية وألقى ابن خلدون في يومه الأول خطاباً بليغاً أمام نُخبةٍ من الأكابر والعلماء المُرسلين من قبل السلطان شهوداً، تحدث الخطبة عن دور العلماء في شد أزر الدوّلة الإسلامية وعن فضل مصر في نصرة الإسلام. وصف ابن خلدون ذلك المنظر من الوقاء في درسه الأول «وانفض ذلك المجلس وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار».

أواخر جمادة الآخرة سنة 786هـ 1384م عُين ابن خلدون قاضياً لقضاة المالكية؛ وفي هذا إشارة على تبؤه مكانةً عاليةً فهذا المنصب من أكثر أربعِ مناصب رفعةً في الدوّلة وفيه أيضاً ابتدأ الاستقرار الذي ماشده ابن خلدون بوصوله لمصر بالاضمحلال وكثرت الخلافات حوّله فخُلع من المنصب أكثر من مرّةٍ ووصف بسخرية «وأقمت على الاستغال بالعلم وتدريشه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية، فعزله واستدعاني للولاية في مجلسه وبين أمراءه، فتفاديت من ذلك، وأبى إلاّ مضاءة». بشكلٍ عام فإن ولاية ابن خلدون للقضاء لم تكن حدثاً عادياً؛ فمنصب قاضي القضاة وحتّى مناصب التدريس كانت غاية الفقهاء والعلماء المحليين ويصعب عليهم استحسان شغلها من قبل أجنبيٍ عنهم، لذلك كثر على ابن خلدون الحساد والطامعين. واستمر التوتر مع وجهاء الدوّلة حتّى قُكّت الرابطة بينهم، وتكاثرة المصائب عليه حيث فُجع بزوجته وولده وماله حيث حلّت بهم عاصفة في البحر أثناء القدوم لمصر بعد أن أذن لهم سلطان تونس ويروي لنا صعوبة الفاجعة عليه «ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد،وصلوا من المغرب في السفين؛ فأصابها قاصف من الريح، فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود؛ فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج من المنصب».

عُزل ابن خلدون من منصب قاضي القضارة في السباع من جمادى الأول سنة 787هـ 1358م وانصرف للتدريس والعلم بالمدرسة القمحية وما ليث أن عُيّن مُدرساً للفقه المالكي في المدرسية الجديدة التي أنشأها السلطان في حي بين القصرين وسُميت المدرسة الظاهرية البرقوقية، وبقي كذلك إلى أن جاء موسم الحج عام 789هـ فأذن له السطلن الذهاب، ودخل مكة في الثاني من ذي الحجة وأدى الفريضة. وعاد إلى القاهرة قاصداً السلطان فغمره بكرمه وعينه للتدريس بمدرسة صرغمتش(3) بدل المدرسة القديمة وقد حدثنا ابن خلدون عن درسه الأول إذا تكلم عن الإمام مالك وحياته ونشأته وكيفية انتشار مذهبه «وانفض ذلك المجلس، وقد لاحظتني بالتجلة والوقاء العيون، واستشعرت أهليتي للمناصب القلوب، وأخلص النجا في ذلك الخاصة والجمهور».

بعدها عمل ابن خلدون في مشيخة نظارة خانقاه بيبرس(4) ووسعت موارده وزارد نفوذه؛ لكن الاستقرار لم يدم في مصر فما لبثت الفتن أن بدأت وتحركت الجيوش وتبدلّت الممّالك وقد ذكر ابن خلدون هذه الفتن وشرح أسبابها بعد أن كان شاهداً عليها فتحدث عن نشوء الدوّل وانهيارها، وقد أثرت هذه الأحداث عليه فخُلع من مصبه ثمّ أعيد إليه بعد عودة الظاهر برقوق للعرش.

منهجه التاريخي
نظر ابن خلدون للأحداث التي جرت في تاريخ الدوّل بتأملٍ شديد فاستبصر ظواهر اجتماعية دائمة الحدوث غير مرتبطةٍ بالوقت وهذه الظواهر تُمثل حياة المجتمع، وتربط الماضي بالمستقبل فالحوادث السابقة مُشابهة للحوادث التي لفتت انتباهه في عصره وعليه اكتشف هذه الظواهر وبلغت دراسته للتاريخ أن تحوّلت لإيمانٍ بالتاريخ فرآى وجوب وجودِ منهجٍ صحيح وواضح للتحقيق قي الحوادث التاريخية والنظم الاجتماعية.

وللوصول للقراءة الصحيحة للتاريخ بكونه علماً فعلى المؤرخين أن يتلافوا الوقوع بثلاث أخطاءٍ رئيسية أولها التشيُّع(6)؛ فإذا روّي التاريخ من قبل الشيعي حصلت به الدوّلة الأمويّة على أشنع الأوصاف دون أيّ صفةٍ حميدة ومثلها ظاهرة التشيُّع عند المؤرخين المُبالغين في تملقِ الأقوياء وآخرين يؤيدون ملكاً بشكلٍ مُفرط دون النظر في مساوءه أو بصرف النظر عنها. أمّا الخطأ الثاني فهو قبول المؤرخ لكلِّ ما روّي من قبله فيأخذ المعلومات دون فحصٍ دقيق وإنّ الحلّ الأنسب لتلافي هذا الخطأ يكون في التمحيص مع كثيرٍ من العنايةِ والتأمل، ويجب هنا الاعتماد على اكتشافات المُسلمين في طريقة التجريح والتعديل التي استخدمها مؤرخوا السنة النبوية فحققوا في كل الأحاديث وأرجعوا كلّ معنىً إلى أصله حتّى صارت الأحاديث أشبه بالمعاجم ليعود المرءُ إليها لأخذ معلومةٍ أو نصيحة، وكذا يجب أن يكون التاريخ فيجب التحقق من كلِّ ما ورد منه حتّى يكون معجماً للمُريدين؛ ويجب الإنتباه لعددِ مؤرخي الحادثة الواحدة فروايةُ خمسةِ مؤرخين أقرب للتصديق من روايةِ مؤرخٍ واحد. أمّا الخطأ الثالث وهو ما أعطاه ابن خلدون عظيم الأهمية هو الجهل بطبيعة الأحوال في العمران فالمؤرخُ محكومٍ بفهم طبائع المجتمع ومطابقتها مع ما يتفقُ من أحوال العمران فإن عجز عن ذلك خسر امتياز القدرةِ على تمحيص المعلومات وتدقيقها.

ويُعلق ابن خلدون على هذه الخطايا الثلاث إلاّ أنّه يُعطي للخطيّة الثالثة أهمية عُظمى فيرى أن المسائل التاريخية لا يُمكن إخضاعها للتجريح والتعديل إلاّ بعد مطابقتها مع طبائع العمران، فمن العبث القول بصحّةِ روايةٍ تاريخية حتّى ولو تكررّت على لسان أكثر من مؤرخ إذا كانت لا تنطبق مع الأحوال في زمانها، أي أن الروايّة تناقض الزمان والمكان والظروف التي تعرضت لها الظاهرة المؤرخّة. يضرب ابن خلدون مثالاً على ذلك برحلة ملك الهند يوم خرج للسفر وقبلها أحصى عدد سكان مملكته من نساءٍ ورجالٍ وأولاد وأعطاهم رزق ستةِ أشهرٍ عند عودته، فلمّا عاد اجتمع أهل الهند وغطوا الأرض كلها وقُذفت عليهم الأموال بالمنجينيقات، فيقول ابن خلدون أنّ الناس استفاضت في تكذيب هذه الواقعة لأنّها لا تتفق مع أحوال العمران «فليرجع الإنسان إلى أصوله وليكن مهيمنا على نفسه ومميّزا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه».

كتب بواسطة Ibn Khaldun

٠ الكتب التي تم العثور عليها

لم يتم العثور على الكتب.